كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم كانت غزوة بدر الكبرى في رمضان من هذه السنة.. وهي التي نزلت فيها هذه السورة التي نحن بصددها.
ورؤية الموقف من خلال ملابسات الواقع، لا تدع مجالًا للقول بأن الدفاع بمفهومه الضيق كان هو قاعدة الحركة الإسلامية. كما يقول المهزومون أمام الواقع الحاضر، وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر!
إن الذين يلجأون إلى تلمس أسباب دفاعية بحتة لحركة المد الإسلامي، إنما يؤخذون بحركة الهجوم الاستشراقية، في وقت لم تعد للمسلمين شوكة بل لم يعد للمسلمين إسلام!- إلا من عصم الله ممن يصرون على تحقيق إعلان الإسلام العام بتحرير الإنسان في الأرض من كل سلطان إلا سلطان الله، ليكون الدين كله لله- فيبحثون عن مبررات أدبية للجهاد في الإسلام!
والمد الإسلامي ليس في حاجة إلى مبررات أدبية له أكثر من المبررات التي حملتها النصوص القرآنية: {فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليًا واجعل لنا من لدنك نصيرًا الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفًا} [النساء: 74- 76].
{قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير} [الأنفال: 38- 40].
{قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلّا هو سبحانه عما يشركون يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون}.. [التوبة: 29- 32].
إنها مبررات تقرير ألوهية الله في الأرض؛ وتحقيق منهجه في حياة الناس. ومطاردة الشياطين ومناهج الشياطين؛ وتحطيم سلطان البشر الذي يتعبد الناس، والناس عبيد الله وحده يجوز أن يحكمهم أحد من عباده بسلطان من عند نفسه وبشريعة من هواه ورأيه! وهذا يكفي.. مع تقرير مبدأ: {لا إكراه في الدين}.. أي لا إكراه على اعتناق العقيدة، بعد الخروج من سلطان العبيد؛ والإقرار بمبدأ أن السلطان كله لله. أو أن الدين كله لله. بهذا الاعتبار.
إنها مبررات التحرير العام للإنسان في الأرض. بإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك.. وهذه وحدها تكفي.. ولقد كانت هذه المبررات ماثلة في نفوس الغزاة من المسلمين فلم يسأل أحد منهم عما أخرجه للجهاد فيقول: خرجنا ندافع عن وطننا المهدد! أو خرجنا نصد عدوان الفرس أو الروم علينا نحن المسلمين! أو خرجنا نوسع رقعتنا ونستكثر من الغنيمة!
لقد كانوا يقولون كما قال ربعي بن عامر، وحذيفة بن محصن، والمغيرة بن شعبة، جميعًا لرستم قائد جيش الفرس في القادسية، وهو يسألهم واحدًا بعد واحد في ثلاثة أيام متوالية، قبل المعركة: ما الذي جاء بكم؟ فيكون الجواب: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده. ومن ضيق الدنيا إلى سعتها. ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.. فأرسل رسوله بدينه إلى خلقه، فمن قبله منا قبلنا منه ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه. ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر.
إن هناك مبررًا ذاتيًا في طبيعة هذا الدين ذاته؛ وفي إعلانه العام، وفي منهجه الواقعي لمقابلة الواقع البشري بوسائل مكافئة لكل جوانبه، في مراحل محددة، بوسائل متجددة.. وهذا المبرر الذاتي قائم ابتداء- ولو لم يوجد خطر الاعتداء على الأرض الإسلامية وعلى المسلمين فيها- إنه مبرر في طبيعة المنهج وواقعيته، وطبيعة المعوقات الفعلية في المجتمعات البشرية.. لا من مجرد ملابسات دفاعية محدودة، وموقوتة!
وإنه ليكفي أن يخرج المسلم مجاهدًا بنفسه وماله.. {في سبيل الله}. في سبيل هذه القيم التي لا يناله هو من ورائها مغنم ذاتي؛ ولا يخرجه لها مغنم ذاتي..
إن المسلم قبل أن ينطلق للجهاد في المعركة يكون قد خاض معركة الجهاد الأكبر في نفسه مع الشيطان.. مع هواه وشهواته.. مع مطامعه ورغباته.. مع مصالحه ومصالح عشيرته وقومه.. مع كل شارة غير شارة الإسلام.. ومع كل دافع إلا العبودية لله، وتحقيق سلطانه في الأرض وطرد سلطان الطواغيت المغتصبين لسلطان الله..
والذين يبحثون عن مبررات للجهاد الإسلامي في حماية الوطن الإسلامي يغضون من شأن المنهج ويعتبرونه أقل من الموطن! وهذه ليست نظرة الإسلام إلى هذه الاعتبارات.. إنها نظرة مستحدثة غريبة على الحس الإسلامي، فالعقيدة والمنهج الذي تتمثل فيه والمجتمع الذي يسود فيه هذا المنهج هي الاعتبارات الوحيدة في الحس الإسلامي. أما الأرض- بذاتها- فلا اعتبار لها ولا وزن! وكل قيمة للأرض في التصور الإسلامي إنما هي مستمدة من سيادة منهج الله وسلطانه فيها. وبهذا تكون محضن العقيدة وحقل المنهج ودار الإسلام ونقطة الانطلاق لتحرير الإنسان..
وحقيقة أن حماية دار الإسلام حماية للعقيدة والمنهج والمجتمع الذي يسود فيه المنهج. ولكنها هي ليست الهدف النهائي. وليست حمايتها هي الغاية الأخيرة لحركة الجهاد الإسلامي. إنما حمايتها هي الوسيلة لقيام مملكة الله فيها. ثم لاتخاذها قاعدة انطلاق إلى الأرض كلها، وإلى النوع الإنساني بجملته. فالنوع الإنساني هو موضوع هذا الدين، والأرض هي مجاله الكبير!
وكما أسلفنا فإن الانطلاق بالمنهج الإلهي تقوم في وجهه عقبات مادية من سلطة الدولة، ونظام المجتمع، وأوضاع البيئة.. وهذه كلها هي التي ينطلق الإسلام ليحطمها بالقوة. كي يخلو له وجه الأفراد من الناس، يخاطب ضمائرهم وأفكارهم، بعد أن يحررها من الأغلال المادية؛ ويترك لها بعد ذلك حرية الاختيار..
يجب ألا تخدعنا أو تفزعنا حملات المستشرقين على مبدأ الجهاد، وألا يثقل على عاتقنا ضغط الواقع وثقله في ميزان القوى العالمية، فنروح نبحث للجهاد الإسلامي عن مبررات أدبية خارجة عن طبيعة هذا الدين، في ملابسات دفاعية وقتية، كان الجهاد سينطلق في طريقه سواء وجدت هذه الملابسات أم لم توجد!
ويجب ونحن نستعرض الواقع التاريخي ألا نغفل عن الاعتبارات الذاتية في طبيعة هذا الدين وإعلانه العام ومنهجه الواقعي.. وألا نخلط بينها وبين المقتضيات الدفاعية الوقتية..
حقًا إنه لم يكن بد لهذا الدين أن يدافع المهاجمين له. لأن مجرد وجوده، في صورة إعلان عام لربوبية الله للعالمين، وتحرير الإنسان من العبودية لغير الله، وتمثل هذا الوجود في تجمع تنظيمي حركي تحت قيادة جديدة غير قيادات الجاهلية، وميلاد مجتمع مستقل متميز لا يعترف لأحد من البشر بالحاكمية، لأن الحاكمية فيه لله وحده.. إن مجرد وجود هذا الدين في هذه الصورة لابد أن يدفع المجتمعات الجاهلية من حوله، القائمة على قاعدة العبودية للعباد، أن تحاول سحقه، دفاعًا عن وجودها ذاته. ولابد أن يتحرك المجتمع الجديد للدفاع عن نفسه..
هذه ملابسة لابد منها. تولد مع ميلاد الإسلام ذاته. وهذه معركة مفروضة على الإسلام فرضًا، ولا خيار له في خوضها. وهذا صراع طبيعي بين وجوددين لا يمكن التعايش بينهما طويلًا..
هذا كله حق.. ووفق هذه النظرة يكون لابد للإسلام أن يدافع عن وجوده. ولابد أن يخوض معركة دفاعية مفروضة عليه فرضًا..
ولكن هناك حقيقة أخرى أشد أصالة من هذه الحقيقة.. إن من طبيعة الوجود الإسلامي ذاته أن يتحرك إلى الأمام ابتداء؛ لإنقاذ الإنسان في الأرض من العبودية لغير الله. ولا يمكن أن يقف عند حدود جغرافية؛ ولا أن ينزوي داخل حدود عنصرية؛ تاركًا الإنسان.. نوع الإنسان.. في الأرض.. كل الأرض.. للشر والفساد والعبودية لغير الله.
إن المعسكرات المعادية للإسلام قد يجيء عليها زمان تؤثر فيه ألا تهاجم الإسلام، إذا تركها الإسلام تزاول عبودية البشر للبشر داخل حدودها الإقليمية؛ ورضي أن يدعها وشأنها ولم يمد إليها دعوته وإعلانه التحريري العام!.. ولكن الإسلام لا يهادنها، إلا أن تعلن استسلامها لسلطانه في صورة أداء الجزية، ضمانًا لفتح أبوابها لدعوته بلا عوائق مادية من السلطات القائمة فيها.
هذه طبيعة هذا الدين، وهذه وظيفته بحكم أنه إعلان عام لربوبية الله للعالمين وتحرير الإنسان من كل عبودية لغير الله في الناس أجمعين!
وفرق بين تصور الإسلام على هذه الطبيعة، وتصوره قابعا داخل حدود إقليمية أو عنصرية، لا يحركه إلا خوف الاعتداء! إنه في هذه الصورة الأخيرة يفقد مبرراته الذاتية في الإنطلاق!
إن مبررات الانطلاق الإسلامي تبرز بوضوح وعمق عند تذكر أن هذا الدين هو منهج الله للحياة البشرية، وليس منهج إنسان، ولا مذهب شيعة من الناس، ولا نظام جنس من الأجناس!.. ونحن لا نبحث عن مبررات خارجية إلا حين تفتر في حسنا هذه الحقيقة الهائلة.. حين ننسى أن القضية هي قضية ألوهية الله وعبودية العباد.. إنه لا يمكن أن يستحضر إنسان ما هذه الحقيقة الهائلة ثم يبحث عن مبرر آخر للجهاد الإسلامي!
والمسافة قد لا تبدو كبيرة عند مفرق الطريق، بين تصور أن الإسلام كان مضطرًا لخوض معركة لا اختيار له فيها، بحكم وجوده الذاتي ووجود المجتمعات الجاهلية الأخرى التي لابد أن تهاجمه. وتصور أنه هو بذاته لابد أن يتحرك ابتداء، فيدخل في هذه المعركة..
المسافة عند مفرق الطريق قد لا تبدو كبيرة. فهو في كلتا الحالتين سيدخل المعركة حتمًا. ولكنها في نهاية الطريق تبدو هائلة شاسعة، تغير المشاعر والمفهومات الإسلامية تغييرا كبيرا.. خطيرا..
إن هناك مسافة هائلة بين اعتبار الإسلام منهجًا إلهيًا، جاء ليقرر ألوهية الله في الأرض، وعبودية البشر جميعًا لإله واحد، ويصب هذا التقرير في قالب واقعي، هو المجتمع الإنساني الذي يتحرر فيه الناس من العبودية للعباد، بالعبودية لرب العباد، فلا تحكمهم إلا شريعة الله، التي يتمثل فيها سلطان الله، أو بتعبير آخر تتمثل فيها ألوهيته.. فمن حقه إذن أن يزيل العقبات كلها من طريقه، ليخاطب وجدان الأفراد وعقولهم دون حواجز ولا موانع مصطنعة من نظام الدولة السياسي، أو أوضاع الناس الاجتماعية.. إن هناك مسافة هائلة بين اعتبار الإسلام على هذا النحو، واعتباره نظامًا محليًا في وطن بعينه. فمن حقه فقط أن يدفع الهجوم عليه في داخل حدوده الإقليمية!
هذا تصور.. وذاك تصور.. ولو أن الإسلام في كلتا الحالتين سيجاهد.. ولكن التصور الكلي لبواعث هذا الجهاد وأهدافه ونتائجه، يختلف اختلافًا بعيدًا، يدخل في صميم الاعتقاد كما يدخل في صميم الخطة والاتجاه.إن من حق الإسلام أن يتحرك ابتداء. فالإسلام ليس نحلة قوم، ولا نظام وطن، ولكنه منهج إله، ونظام عالم.. ومن حقه أن يتحرك ليحطم الحواجز من الأنظمة والأوضاع التي تغل من حرية الإنسان في الاختيار. وحسبه أنه لا يهاجم الأفراد ليكرههم على اعتناق عقيدته. إنما يهاجم الأنظمة والأوضاع ليحرر الأفراد من التأثيرات الفاسدة، المفسدة للفطرة، المقيدة لحرية الاختيار.
من حق الإسلام أن يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده.. ليحقق إعلانه العام بربوبية الله للعالمين، وتحرير الناس أجمعين.. وعبادة الله وحده لا تتحقق- في التصور الإسلامي وفي الواقع العملي- إلا في ظل النظام الإسلامي. فهو وحده النظام الذي يشرع الله فيه للعباد كلهم. حاكمهم ومحكومهم. أسودهم وأبيضهم. قاصيهم ودانيهم. فقيرهم وغنيهم تشريعًا واحدًا يخضع له الجميع على السواء.. أما في سائر الأنظمة، فيعبد الناس العباد، لأنهم يتلقون التشريع لحياتهم من العباد. وهو من خصائص الألوهية. فأيما بشر ادعى لنفسه سلطان التشريع للناس من عند نفسه فقد ادعى الألوهية اختصاصًا وعملًا، سواء ادعاها قولًا أم لم يعلن هذا الادعاء! وأيما بشر آخر اعترف لذلك البشر بذلك الحق فقد اعترف له بحق الألوهية سواء سماها باسمها أم لم يسمها!
والإسلام ليس مجرد عقيدة. حتى يقنع بإبلاغ عقيدته للناس بوسيلة البيان. إنما هو منهج يتمثل في تجمع تنظيمي حركي يزحف لتحرير كل الناس. والتجمعات الأخرى لا تمكنه من تنظيم حياة رعاياها وفق منهجه هو. ومن ثم يتحتم على الإسلام أن يزيل هذه الأنظمة بوصفها معوقات للتحرر العام. وهذا- كما قلنا من قبل- معنى أن يكون الدين كله لله. فلا تكون هناك دينونة ولا طاعة لعبد من العباد لذاته، كما هو الشأن في سائر الأنظمة التي تقوم على عبودية العباد للعباد!